فصل: فصل في أسرار ترتيب السورة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فصل في التفسير الموضوعي للسورة كاملة:

قال محمد الغزالي:
سورة فاطر:
سورة فاطر آخر السور المبدوءات بحمد الله. وإسناد الحمد لله من الباقيات الصالحات، وهو شائع في أثناء السور وخواتيمها. ومن أولى من الله بالحمد في الأولى والآخرة؟ {الحمد لله فاطر السماوات والأرض جاعل الملائكة رسلا أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع}. الفاطر الخالق والملائكة أجسام لطيفة نورانية قادرة على التشكل بأشكال مختلفة، شأنهم الخير والطاعة والعلم والقدرة على الأعمال الشاقة، ومسكنهم السموات. هكذا قال صاحب المقاصد. وظاهر أنهم ينفذون مراد الله في مخلوقاته، فهناك ملائكة للموت، وأخرى للحياة والولادة، وأخرى للإحصاء والرقابة. وقدراتهم التي زودهم الله بها متفاوتة تفاوتا بعيدا. والآية هنا تجعل الأجنحة مثنى وثلاث ورباع.
وفي السنة تكون الأجنحة مئات حينا، وألوفا حينا آخر! {يزيد في الخلق ما يشاء إن الله على كل شيء قدير}. وسورة فاطر تشبه سورة النحل في أنها إحصاء للنعم، وبيان فضل الله على خلقه في طورى الإيجاد والإمداد. وقد بدأت بهذا القانون القاطع {ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم}. والبشر أحوج أهل الأرض إلى معرفة هذا القانون، فهم يحسبون منابع الخيرات تسيل بعيدا عن الله، وهم يتوهمون قوة في الأصفار التي لاوجود لها، وهم يضطربون يمنة ويسرة بمشاعر رعناء! فما نقول فيمن يخشى حمامة ويجرؤ على الأسد؟! أهذا صاحب عقل؟ ولذلك جاءت الآية عقب هذا القانون {يا أيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض لا إله إلا هو فأنى تؤفكون}.
من غير الله مصدر النعم؟ من المفضل على عباده بما يثلج صدورهم؟ في الحديث الشريف {اللهم ما أصبح بى من نعمة أو بأحد من خلقك فمنك وحدك لاشريك لك فلك الحمد ولك الشكر}. إن الإيمان لا يتم إلا بهذا الشعور الغامر، الشعور بأن من {وله ما سكن في الليل والنهار وهو السميع العليم}. هو ولى النعم وسائق الخيرات... إن شيوع الشرك بين الناس مصدره موت هذه العقيدة مما جعل الناس يهابون الذباب وينسون رب الأرباب. وهل يعربد الجبارون في الأرض إلا لفراغ الأفئدة من هذا الإيمان؟ ومن ثم تكرر نداء الناس مرة ثانية ليلتفتوا إلى هذه البديهية {يا أيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير}. إن الله ألهم محمدا هذا الكتاب ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، وهو يتلوه على الناس ليرشدوا فمن استجاب نجا {وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك وإلى الله ترجع الأمور} وقد رفض المشركون عقيدة التوحيد والبعث، ولقى الرسول! من قومه عنادا وخصومة، فقيل له مرة أخرى: {وإن يكذبوك فقد كذب الذين من قبلهم جاءتهم رسلهم بالبينات وبالزبر وبالكتاب المنير ثم أخذت الذين كفروا فكيف كان نكير}. لكن هذا الأخذ لا يتم على عجل، فإن الله يمهل العباد أمدا قد يطول، حتى يصحى النائم ويعقل الأحمق. {ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى فإذا جاء أجلهم فإن الله كان بعباده بصيرا}. يعلم من استفاد من الإمهال فتاب، ومن اغتر به فهوى. وقد كشفت الآيات قبل ذلك أن هناك من يحسب الإمهال! إهمالا، فلا يزيده الصبر إلا عمى عن الطريق: {أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن الله عليم بما يصنعون}.
لقد كان النبى شديد الأسى لكفر من كفر إنه يبذل جهده تذكرة وتبصرة، ولكن لا يهلك على الله إلا هالك كره الحق وآثر الغى. ومن هنا جاء النداء الثالث والأخير في هذه السورة {يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز}. إن الله لا يعز عليه شىء، فهو قدير على محو العالم بما فيه ومن فيه، والإتيان بعالم آخر أزكى وأتقى..! وأمام الناس خيار بين الجور والعدل، بين الذل والعز، بين الوفاء لله والغدر بعهده {من كان يريد العزة فلله العزة جميعا إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه والذين يمكرون السيئات لهم عذاب شديد ومكر أولئك هو يبور}. وتمضى السورة تكشف طورى الإيجاد والإمداد، فالله مرسل الريح تثير السحب، وهو منشيء البحرين: هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج. {والله خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم جعلكم أزواجا}. ومع ذلك فأعداد من الناس تنطلق في دروب الحياة كالكلاب الضالة لا تعرف لها ربا ولا تؤدى له حقا، ولا تزال تائهة حتى يخترمها طلق نارى ينتهى بعده تشردها وتمردها. يكاد الإجماع ينعقد بين الخبراء بالأديان على أن الإسلام قام على الفكر في الكون والبصر بالحياة، وأنه دعوة حارة إلى التأمل في العالم وتدبر آياته وقواه وكشف أسراره وقوانينه. إن التفكر في ذات الله مستحيل، فلم يبق سبيل إلى معرفة عظمته إلا من متابعة آياته في مخلوقاته، وهى دليل لا يكذب على علمه وقدرته وجلاله وجماله. إنه على مسافة خطوات محدودة من الأرض ترى زروعا مختلفة الطعوم والألوان والروائح تخرج جميعا من طينة واحدة، فإذا رفعت عينك إلى السماء وجدت شمسا ساطعة وقمرا منيرا ونجوما مبعثرة في الآفاق على أبعاد سحيقة تدل على عالم ضخم فخم.. وليس هذا كله إلا أثر رب كبير. ومن هذا المنطلق، تتلو قوله تعالى: {ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك إنما يخشى الله من عباده العلماء إن الله عزيز غفور}.
وسياق الآية ظاهر في أن المقصود بالعلماء هنا علماء النبات والحيوان وعلماء طبقات الأرض، وعلماء الفيزياء والكيمياء، فضلا عن علماء الطب والهندسة والفلك. لقد تتبعنا أقوال هؤلاء وسمعنا حديثهم عن الله تبارك وتعالى، فإذا هم يذكرون عظيما أهلا للتحميد والتمجيد، والإفراد بالعبودية.
وفي كل شيء له آية- تدل على أنه الواحد... وعلى هذا المحور تدور معانى القرآن. فالإيمان وليد عقل ذكى باحث، والدين ليس إلا عقلا مؤمنا وقلبا استقرت إلى الله وجهته! وقد حملت الأمة الإسلامية حقائق الدين في إطار هذا المعنى، وطلب منها أن تمثله بين الناس. قال تعالى: {ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير}.
وقد سبق العرب غيرهم في حمل رسالات الله إلى الناس، وكان بنو إسرائيل آخر الأجناس التي بلغت الوحى، ولكن أثرتهم غلبتهم، فاستغلوا الوحى لخدمة شهواتهم ودعم غرورهم، فغضب الله عليهم وصرف عنهم الوحى إلى آخر الدهر. واختار العرب لأداء هذه الأمانة! وقد بينت الآية هنا أن العرب انقسموا ثلاث فرق، فرقة ظالمة لنفسها بالعصيان والتفريط، وفرقة مقتصدة تكتفى بما تيسر لها من صالحات وقد تخلطه ببعض السيئات، وفرقة أسلمت لله وجهها، وأسرعت في مرضاته فسبقت سبقا بعيدا. والحق أن قيمة أية أمة والحكم عليها يتبعان الجو السائد، ويرجعان إلى غلبة إحدى هذه الفرق على صاحبتيها! والأمر خطير إذا كانت كثرة الأمة من الظالمين لأنفسهم أو من المقتصدين.. إن العقاب الإلهى يكون شديدا، وقد تخسر الأمة كلها العناصر التي رجحت كفتها، وأورثتها فضل الاختيار، فهل يعى المسلمون هذا؟ وهل نستطيع نحن المسلمين تربية أنفسنا وإبلاع رسالتنا إذا جئنا إلى هذه الآية وما يشبهها فقلنا: {أمة محمد أورثهم الله كل كتاب أنزله فظالمهم يغفر له ومقتصدهم يجاسب حسابا يسيرا وسابقهم يدخل الجنة بغير حساب}، كما روى عن ابن عباس! إن شيوع هذه المجازفات أفسد العوام! وجعل المسلمين آخر الأمم حضارة وجدوى! ونحن نستصحب هذا الشعور المرير عندما نقرأ قوله تعالى بعد ذلك {وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفورا استكبارا في الأرض ومكر السيئ ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله فهل ينظرون إلا سنة الأولين فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا}.
لقد تكرر هذا المعنى ثلاث مرات في القرآن الكريم، هنا في فاطر وفي سورة الأنعام وفي سورة الصافات. والمراد في المواضع كلها التنديد بعرب الجاهلية الذين ذهبوا بأنفسهم، وازدروا أهل الكتاب الأولين، وقالوا لو أن لنا كتابا لكنا أهدى منهم، فها قد جاءكم كتاب، فماذا فعلتم به؟ أشهد أن سلفنا الصالح طوفوا بالوحى الآفاق، وكانوا بسيرتهم وخلائقهم نماذج تغرى باعتناقه، لكن العرب سرعان ما غلبتهم طبائعهم النزقة؟ فانحرفوا عن صراط الله، واستهانوا بوصايا القرآن وأغرقوا في طاعة هواهم. ونسمع الآن منهم فخرا بقوميتهم، ونرى انسلاخا عن الميراث الذي اصطفاهم الله له، فما يرقبون بعد هذه الردة؟ إن علاقة الناس بالله أساسها ولاؤهم له أو تمردهم عليه، ولذلك يقول محذرا {أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم وكانوا أشد منهم قوة وما كان الله ليعجزه من شيء في السماوات ولا في الأرض إنه كان عليما قديرا}. ألا ليت العرب يعلمون. اهـ.

.في رياض آيات السورة الكريمة:

.فصل في أسرار ترتيب السورة:

قال السيوطي:
سورة فاطر:
أقول: مناسبة وضعها بعد سبأ تآخيهما في الافتتاح بالحمد، مع تناسبهما في المقدار وقال بعضهم: افتتاح سورة فاطر بالحمد مناسب لختام ما قبلها، من قوله: {وحيل بينَهُم وبينَ ما يشتهون كما فعلَ بأشياعهم من قبل} فهو نظير اتصال أول الأنعام بفصل القضاء المختتم به المائدة. اهـ.

.تفسير الآيات (1- 4):

قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
{بسم الله} الذي أحاط دائرة قدرته بالممكنات {الرحمن} الذي أتم بالبعث عموم الرحمة {الرحيم} الذي شرف أهل الكرامة بدوام الإقامة في دار المقامة.
ولما أثبت سبحانه في التي قبلها الحشر الذي هو الإيجاد الثاني، ودل عليه بجزئيات من القدرة على أشياء في الكون، إلى أن ختم بأخذ الكفار أخذًا اضطرهم إلى الإيمان بظهور الحمد لهم أتم الظهور، وبالحيلولة بينهم وبين جميع ما يشتهون كما كانوا متعوا في الدنيا بأغلب ما يشتهون من كثرة الأموال والأولاد، وما مع ذلك من الراحة من أكثر الأنكاد، وكان الحمد يكون بالمنع والإعدام، كما يكون بالإعطاء والإنعام، قال تعالى ما هو نتيجة ذلك: {الحمد} أي الإحاطة بأوصاف الكمال إعدامًا وإيجادًا {لله} أي وحده.
ولما كان الإيجاد من العدم أدل على ذلك، قال دالًا على استحقاقه للمحامد: {فاطر} أي مبتدئ ومبتدع {السماوات والأرض} أي المتقدم أن له ما فيهما بأن شق العدم بإخراجهما منه ابتداء على غير مثال سبق كما تشاهدون ولما كانت الملائكة إفردًا وجمعًا مثل الخافقين في أن كلًا منهم مبدع من العدم على غير مثال سبق من غير مادة، وكان قد تقدم أنهم يتبرءون من عبادة الكفرة يوم القيامة، وكان لا طريق لعامة الناس إلى معرفتهم إلا الخبر، أخبر عنهم بعد ما أخبر عما طريقه المشاهدة بما هو الحق من شأنهم، فقال مبينًا بتفاوتهم في الهيئات تمام قدرته وأنها بالاختيار: {جاعل الملائكة رسلًا} أي لما شاء من مراده وإلى ما شاء من عباده ظاهرين للأنبياء منهم ومن لحق بهم وغير ظاهرين {أولي أجنحة} أي تهيؤهم لما يراد منهم؛ ثم وصف فيه إلى أكثر من ذلك، ولعل ذكره للتنبيه على أن ذلك أقل ما يكون بمنزلة اليدين.
ولما كان ذلك زوجًا نبه على أنه لا يتقيد بالزوج فقال: {وثلاث} أي ثلاثة ثلاثة لآخرين منهم.
ولما كان لو اقتصر على ذلك لظن الحصر فيه، نبه بذكر زوج الزوج على أن الزيادة لا تنحصر فقال: {ورباع} أي أربعة لكل واحد من صنف آخر منهم.
ولما ثبت بهذا أنه فاعل بالاختيار دون الطبيعة وغيرها، وإلا لوجب كون الأشياء غير مختلفة مع اتحاد النسبة إلى الفاعل، كانت نتيجة ذلك: {يزيد في الخلق} أي المخلوقات من أشياء مستقلة ومن هيئات للملائكة وخفة الروح واللطافة والثقالة والكثافة وحسن الصوت والصيت والفصاحة والسذاجة والمكر والسخارة والبخل وعلو الهمة وسفولها- وغير ذلك مما يرجع إلى الكم والكيف مما لا يقدر على الإحاطة به غيره سبحانه، فبطل قول من قال: أنه فرغ من الخلق في اليوم السابع عند ما أتم خلق آدم فلم يبق هناك زيادة، كاليهود وغيرهم على أن لهذا المذهب من الضعف والوهي ما لا يخفى غير أنه سبحانه أوضح جميع السبل ولم يدع بشيء منها لبسًا: {ما يشاء} فلا بدع في أن يوجد دارًا أخرى تكون لدينونة العباد، ثم علل ذلك كله بقوله مؤكدًا لأجل إنكارهم البعث: {إن الله} أي الجامع لجميع أوصاف الكمال {على كل شيء قدير} فهو قادر على البعث فاعل له لا محالة.
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: لما أوضحت سورة سبأ أنه سبحانه مالك السماوات والأرض، ومستحق الحمد في الدنيا والآخرة، أوضحت هذه السورة أن ذلك خلقه كما هو ملكه، وأنه الأهل للحمد والمستحق، إذ الكل خلقه وملكه، ولأن السورة الأولى تجردت لتعريف العباد بأن الكل ملكه وخلقه دارت آيها على تعريف عظيم ملكه، فقد أعطي داود وسليمان عليهما السلام ما هو كالنقطة من البحار الزاخرة، فلان الحديد وانقادت الرياح والوحوش والطير والجن والإنس مذللة خاضعة {قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير} [سبأ: 22] تعالى ربنا عن الظهير والشريك والند، وتقدس ملكه عن أن تحصره العقول أو تحيط به الأفهام فتجردت سورة سبأ لتعريف العباد بعظيم ملكه سبحانه، وتجردت هذه الأخرى للتعريف بالاختراع والخلق، ويشهد لهذا استمرار آي سورة فاطر على هذا الغرض من التعريف وتنبيهها على الابتداءات كقوله تعالى: {جاعل الملائكة رسلًا أولي أجنحة مثنى} الآية، وقوله: {ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها هل من خالق غير الله يرزقكم} وقوله: {أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنًا} الآية، وقوله: {الله الذي أرسل الرياح فتثير سحابًا} الآية {والله خلقكم من تراب يولج اليّل في النهار ويولج النهار في اليّل} {ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفًا ألوانها} {هو الذي جعلكم خلائف في الأرض} {إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا} فهذه عدة آيات معرفة بابتداء الخلق، والاختراع أو مشيرة ولم يقع من ذلك في سورة سبأ آية واحدة، ثم إن سورة سبأ جرت آيها على نهج تعريف الملك والتصرف فيه والاستبداد بذلك والإبداد، وتأمل افتتاحها وقصة داود وسليمان عليهما السلام، وقوله سبحانه {قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثال ذرة} الآيات يتضح لك ما ذكرناه وما انجرّ في السورتين مما ظاهره الخروج من هاذين الغرضين فملتحم ومستدعى بحكم الانجرار بحسب استدعاء مقاصد الآي- رزقنا الله الفهم عنه بمنه وكرمه- انتهى.
ولما وصف سبحانه نفسه المقدس بالقدرة الكاملة، دل على ذلك بما يشاهده كل أحد في نفسه من السعة والضيق مع العجز عن دفع شيء من ذلك أو اقتناصه، فقال مستأنفًا أو معللًا مستنتجًا: {ما} أي مهما {يفتح الله} أي الذي لا يكافئه شيء.
ولما كان كل شيء من الوجود لأجل الناس قال: {للناس} ولما كان الإنعام مقصودًا بالذات محبوبًا، وكانت رحمته سبحانه قد غلبت غضبه، صرح به فقال مبينًا للشرط في موضع الحال من ضميره أي يفتحه كائنًا: {من رحمة} أي من الأرزاق الحسية والمعنوية من اللطائف والمعارف التي لا تدخل تحت حصر دقت أو جلت فيرسلها {فلا ممسك لها} أي الرحمة بعد فتحه كما يعلمه كل أحد في نفسه أنه إذا حصل له خير لا يعدم من يود أنه لم يحصل، ولو قدر على إزالته لأزاله، ولا يقدر على تأثير ما فيه.
ولما كان حبس النعمة مكروهًا لم يصرح به، وترك الشرط على عمومه بعد أن فسر الشرط الأول بالرحمة دلالة على مزيد الاعتناء بها إيذانًا بأن رحمته سبقت غضبه فقال: {وما يمسك} أي من رحمة أو نعمة بإغلاق باب الخلق عنه {فلا مرسل له} أي الذي أمسكه بمثل البرهان الماضي في الرحمة.